بسام درويش / Jun 01, 2018

وقّع ثلاثمائة شخصية فرنسية، من بينهم الرئيس السابق نيكولاي ساركوزي ووزراء سابقون وإعلاميون وأكاديميون وفنانون من مختلف الديانات، على رسالة موجهة إلى المراجع الدينية الإسلامية، طالبوا فيها إعادة النظر ببعض آيات القرآن وإسقاطها منه رداً على تصاعد حملات العداء الإسلامية المتصاعدة ضد السامية في فرانسا.

أثارت هذه العريضة غضب الأزهر الذي أعلن رفضه التام لها واصفاً إياها بأنها غير مبررة وغير مقبولة إطلاقاً. وردّ وكيل الأزهر عبّاس شومان على الموقعين على الرسالة يحثّهم على عدم الاعتماد "على فهمهم المغلوط" بقوله إنّ "الإسلام ليس مسؤولاً عن عدم فهم الآخرين لمعاني الآيات وأخذهم بظاهرها دون الرجوع لتفاسير العلماء لها، فما ظَنّهُ هؤلاء آياتٍ تنادي بقتلهم هي آيات سلامٍ في حقيقتها، فآيات القتال كلها واردة في إطار رد العدوان إذا وقع، وليس إيقاعه على الغير، وهذا مبدأ لا خلاف حوله حتى بين المطالبين بتجميد هذه الآيات." 

************

دعوة وكيل الأزهر للرجوع إلى "علماء" المسلمين من أجل فهمٍ أفضل لتعاليم الإسلام دعوةٌ معقولة، وعلى الموقعين على الرسالة ليس فقط احترامها، إنما الإسراع بقبولها. لكن ماذا لو قرر هؤلاءُ فعلاً الاستجابةَ لدعوته لتصحيح "فهمهم المغلوط"، فقاموا بزيارة مكتبة الأزهر لنهل المعرفة مباشرة من مراجعها؟ ماذا تراه يفعل بالفيض الهائل من تفاسير علمائه كالإمامين الجلالين والطبري والقرطبي والنسائي وابن دواد وابن تيمية وغيرهم من كبار أئمة المسلمين الذين يخالفونه الرأي تماماً؟

************

يقول وكيل الأزهر "إن ما ظنّه هؤلاء آياتٍ تنادي بقتلهم هي آيات سلامٍ في حقيقتها..." حيث أنّ "آيات القتال كلها واردة في إطار رد العدوان...!"

حسناً...! سندع جانباً كلّ آيات القتال التي يقول عنها الوكيل إنها في حقيقتها آيات سلام، وتعالوا نبحث عن السلام بين كلمات واحدة منها على الأقل وهي التي تتعلق بقتال المسيحيين واليهود!

تقول الآية 29 من سورة التوبة:

"قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون."

ما معنى "قاتلوا؟

ليس هناك معجمٌ واحدٌ من معاجم اللغة يفسّر كلمة "قاتلوا" بمعنى "حاوِروا" أو "بشّروا" أو "إنصحوا" أو "تفاوضوا...!"؛ كل المعاجم تُجمع على تفسيرٍ واحدٍ لكلمة "قاتل" وهو "حارب وعادى." الشيخ الأزهري يعرف ذلك تمام المعرفة، ولكن وظيفته تقتضي منه الذهاب إلى أبعد حدود النفاق طالما كان النفاق في خدمة الله والإسلام والمسلمين. وهكذا، فقد طلع على العالم بنظرية لم يسبقه إليها فقيه من فقهاء المسلمين بقوله إنّ آيات القتال في القرآن هي آيات سلام بحد ذاتها والقتال لا يكون إلا "في إطار ردّ العدوان... إذا وقع...!"

ادّعاء الشيخ الوكيل في الحقيقة لا يخالف آراء المفسّرين فقط إنما يخالف أيضاً نبيّه نفسه الذي قال، "أُمِرتُ اَنْ اُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ اِلَهَ اِلاَّ الله‏.‏ فَاِذَا قَالُوهَا وَصَلَّوْا صَلاَتَنَا، وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا، وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَاَمْوَالُهُمْ اِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله‏"‏‏. (البخاري: كتاب الصلاة)

قتال الناس، حسب قول "الرسول" ليس لردّ عدوان إذا وقع، إنما حتى يقولوا "لا إله إلا الله"، ويصلوا صلاته ويذبحوا ذبيحته، ويستقبلوا قبلته... أي بعبارة أخرى، حتى يتبعوه ويخضعوا لسلطانه.

وكما أنّ عبارة "الرسول" لا تتضمن أية إشارة "لرد عدوان إذا وقع"، كذلك هي آية سورة التوبة التي أتينا على ذكرها لا تتضمن أي ذكرٍ لعدوانٍ واقعٍ ولا مُحتمل الوقوع من قبل أهل الكتاب من المسيحيين واليهود، والغاية الوحيدة لقتالهم كما تقوله الآية بكل وضوح هي استبزازهم وإجبارهم على دفع الأتاوة له شريطة أن يدفعوها وهم يشعرون بالذل والهوان أيضاً! أي لا يكفي أن يدفعوها له فقط بل عليهم أن يدفعوها أذلا ء مهانين!

هنا يبرز السؤال المهم: ماذا لو لم يقبل أهل الكتاب بالتسليم بنبوة محمد والإيمان بإلهه ورفضوا أيضاً دفع الجزية والخضوع لدولة الإسلام والمسلمين..؟ هل تتحوّل آنذاك كلمة قاتلوهم بقدرة قادرٍ إلى "عاملوهم بالحسنى" أو أتركوهم وشأنهم" أو احترموا رغبتهم" أو "عودوا إلى حيث أتيتم ولا تؤذوا أحداً منهم...؟"

اليهود لم يُعادوا محمد في مطلع الإسلام وقد سبق وأن رحبوا به في المدينة وفتحوا له قلوبهم ومنازلهم حين لجأ إليها هارباً من أهل مكة. أما المسيحيون، فليس في التاريخ الإسلامي أيّ ذكرٍ لقيامهم بأية حملة عداء ضد محمد أو جماعته.

***********

الأمر بقتال اليهود والنصارى لم يرِدْ قطعاً "في إطار رد العدوان"، وإليكم ما يقوله أحد كبار المفسرين الذين ينهل طلابُ العلمِ في الأزهر معارفهم منهم ومن بينهم وكيل الأزهر بالذات.

يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية:

"بعد ما تمهدت أمور المشركين ودخل (!!) الناس في دين الله أفواجا واستقامت جزيرة العرب، أمر الله رسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى وكان ذلك في سنة تسع، ولهذا تجهز رسول الله لقتال الروم ودعا الناس إلى ذلك.."

إذاً، فمن الواضح أن مسالمة اليهود والمسيحيين لم تكن سوى عملية خداع سياسية من قبل محمد إلى الوقت الذي عظمت فيه قوته واستتب له الأمر في جزيرة العرب. وآنذاك قرر التفرّغ للمسيحيين واليهود داخل الجزيرة وخارجها، فاستنزل هذه الآية التي يعطي فيها اليهود والمسيحيين ثلاثة خيارات: القتال حتى الموت، أو اتباعه والإيمان بنبوته، أو الحفاظ على حياتهم ومعتقداتهم مقابل دفع أتاوة شريطة أن يدفعوها أذلاء مُهانين. وفي هذا يتابع ابن كثير تفسيره: (.. أما عن قوله وهم صاغرون، أي ذليلون حقيرون مهانون، فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين بل هم أذلاء صغرة أشقياء كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال "لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه)

***********

من الطبيعي أن يعبّر الأزهر عن غضبه من المطالبة بإسقاط الآيات التي تحرّض على كراهية وقتال اليهود والمسيحيين. فإسقاط آية أو تجميدها أو إعادة تفسيرها سوف يتبعها حتماً إسقاطٌ أو تجميدٌ أو إعادةُ تفسيرٍ لآياتٍ كثيرةٍ أخرى كتلك التي تحض على قتال المشركين أين وُجدوا، أو الآيات التي تحط من كرامة المرأة، أو تلك التي تناقض العلم والمنطق.. وهذا يعني إنه لن يبقى من القرآن بعد ذلك إلا ما أُخذَ من أساطيىر الهنود والفرس واليهود والمسيحيين أو شعراء العرب، أو عشرات الآيات التي تتضارب آراء الفقهاء في شرحها وبيان نزولها، مثل "كهيعص"، و"طه"، و"المص" و"طمس" و"طس" و"يس" و"حم عسق" وأخرى كثيرة لا زال رب العالمين مصراً على حجب معانيها عن علماء المسلمين!

===================== 

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط