إبراهيم عرفات
/
Mar 28, 2010
تكثر بين الأقباط مقولات تتداول فيما بينهم، ومن كثرة الاستعمال تصبح لدى البعض منهم وفي عقلهم الباطن بمثابة حقائق. قال أحدهم: "إذا أردت أن تُصدَّق كذبتك فأكثر تردادها". هذا الأمر يشبه الإسلام الذي وُلدت فيه وليس لي خيارٍ من الأمر، ولم أشك فيه للحظة واحدة لسبب بسيط وهو أني اعتمدته حقيقة مطلقة من كثرة التكرار والترداد مع أنه كذبة الأكاذيب في تاريخ البشرية إذ هو فاشية في ثوب الدين؛ وإنْ ثمة روحانية من نوعٍ ما فهي أحط أنواع الروحانيات، وأكثر الطرق بدائية في النظرة للإله من بين كل أديان العالم.
عقب تحولي للمسيحية يقترب مني جارنا في القرية، وبخبث فلاحين ممزوج بخبث إسلامي (بما أن الله خير الماكرين!) يفاتحني في الحديث عن المسيحية ونظرتي الشخصية لها محاولاً استدراجي، مع أنه ليس من رجال الدين ولا حرص كثيرًا على أداء فرائضه المحمدية. فجأة يقول لي إنه لا يحب الأقباط. أندهش وخاصة أنه طوال هذه السنين من قبل لم يتحدث عنهم لا بحلوٍ ولا بمرَّ؛ إذ هم جماعة شأنها شأن أي جماعة في المجتمع القروي، ولا سيما عند الحديث عن جماعة تعيش على هامش الحياة. سألته: "لماذا لا تحب الأقباط؟" أجاب بعفوية وتلقائية: "لأنهم جبناء". استغربت من هذه المقولة وخاصة أنه لم تحدث هنا مبارزة بالسيوف بينه وبين الأقباط يتحقق فيها من منازلتهم أنه الشجاع وأنهم الجبناء. ولكنها جملة لاكتها الألسن وصدقها فلان وعلان من كثرة الترداد، فصدقوا أكاذيبهم من جملة أكاذيبٍ أخر. امتعضت واستأت على الفور في داخلي من هذا التقيح الذي أصاب نفوس الناس وهي تطلق الكلام على عواهنه دون اعتبار لآدمية الآخرين.
كل هذا متوقع من أن يقوله مسلم هنا ومسلم هناك ولكن أن يقولها قبطي لقبطي آخر أو يعتمدها قولاً مأثورًا فهو القبح بعينه. أثناء حديثي مع رجل دينٍ ما عن عدم التعرض للإسلام لما يتبع ذلك من تبعات تلحق بالمساكين، قال لي بعفوية: "شوف يا بني أنا لا أحب الجبن القبطي". استغربت أن يقولها قبطي بحق قبطي آخر. وكيف يصبح الأقباط "غير جبناء" في نظره؟ بأن يفسحوا له المجال ويصفقوا له على قضاء الساعات الطوال في الحديث عن محمد وعائشة والحيض والحدث الأصغر والحدث الأكبر وهكذا دواليك من كل قصص الإسلام المتهالكة هذه.
الأقباط أقلية تعيش تحت القهر الإسلامي؛ والقهر سواء صدر من زوج ضرّاب أو من دينٍ قاهرٍ فالقهر هو هو. في حالة القهر الزوجيّ، يكثر الزوج العنيف من ترديد مقولات لزوجته بأنها هي السبب وأنها أساس كل الضرر وأنها وقحة وأنها- بعد سلسلة طويلة من النعوت الشرسة- هي أساس كل البلايا وحبلُ عهرٍ من "حبائل الشيطان".
كثيرًا ما حاولت مساعدة سيدات في مواقف القهر على الخروج من هذا الزواج التعيس وخاصة أن زوجها المسلم يضربها ويطبق أمر القرآن في سورة النساء آية 34 لما قال "واضربوهن". ولكنها تعود فتقول لي: هو ليس بهذا السوء؛ ربما أنا المخطئة. ربما أنا أستحق كل هذا. ومأساة المرأة المقهورة هذه تتكرر في حالة قهر الشعوب. يأتي المسلم القاهر ولا يفتأ يكرر عبارات مثل "الأقباط جبناء" أو كما قالها قبطيٌ في قلب بيتي في لحظة ولحظات غضب "عفانة الأقباط. لقد غرس المسلم القاهر رسالة قهر في العقل الباطن لهذا القبطي المقهور المطحون؛ وقام القبطي فعلا بتصديقها وشرع يردد ببلاهة "الأقباط جبناء". وإذا سألناه عن مبرره في التقوّل بتلك الجملة القاسية والخالية من الحقيقة لوجدنا أنها أسباب ترتكز على عدم هبوب الآخرين للسلوك بمثلما يفعل كثير من المسلمين.
هل يُطلب إلى الأقباط أن يكونوا شرسين برييّ الطباع يتسلطون على هذا وذاك؛ يدهم متسلطة بالقهر على كل إنسان ويد كل إنسان عليهم؟ أهذا هو المطلوب حتى لا نقول عنهم جبناء؟ هل الاندفاع الإسلامي شجاعة؟ هل الصوت المرتفع شجاعة؟ هل القهر الإسلامي شجاعة؟
ليست الشجاعة في القدرة على الإساءة بمثلها، وإلا فأين الصليب؟ قال غاندي: "عندما تخلع لي عين وأخلع لك عين فهذا يؤدي إلى عالم كله عميان". ليست الشجاعة هي مبدأ "العين بالعين"، إذا. وليست الشجاعة هي المبادرة لتجريح مشاعر المسلم في ما يؤمن به من عقائد وغيبيات، بل ربما الشجاعة هي أن ندرك أن هذه الغيبيات هي جزء من تكوينه ولا يجب أن نقول شيء سابق لأوانه، وخاصة لو أن هذا يمس وجدانه وعواطفه، إذ يكفي أنه إنسان. وليست الشجاعة عنتريات دنكيشوطية ومساجلات كلامية. قال الملحد السعودي العظيم عبد الله القصيمي: "العرب ظاهرة صوتية"، ولم يقلها من فراغ وهو يرى مساجلاتنا الكلامية و"أمجاد يا عرب أمجاد".
هناك الجرأة في الصمت: إنها جرأة الحمل. لم يكن المسيح جبانًا، ولكنه كان كالحمل الوديع، وقد علّمنا أن "كونوا بسطاء كالحمام حكماء كالحيات". حكمة الحيات لا تعني مناطحة الكباش على الطراز الإسلامي الذي كلنا نعرفه جيدًا بل ها هي الحية تلتف وتدور وتصل لمأربها دون تطبيل أو تزمير. ودون جولات الردح الديني إياها! صديقي القبطي "س" لم يكن متضلعًا في المسيحية ولكنه كان بسيطًا وجلبابه الفلاحي الذي لا زلت أتذكره. لم يأسر قلبي بالهجوم على الإسلام بل بنور المسيح المرتسم على وجهه. عندما أراد أن يكلمني بالإنجيل كان يعرض لي شخصية المسيح القائل: "كونوا بسطاء كالحمام وحكماء كالحيات". وقتئذ كنت لا أزال مسلمًا ورأيت وجهه المشرق بنور المسيح وهو ينطق بهاته الآية وقلت لنفسي: "من المؤكد أن المسيح جميلٌ إلى هذا الحد إنْ كان ضيائه ينعكس على وجوهٍ قبطيةٍ منيرة تطبّق وصاياه بتلك البساطة ". في هذه البساطة وحدها انتصر صاحبي القبطي الوديع، وبمسيحيته اخترق أعماق قلبي، فأسرت هذه المسيحية قلبي وأخذت بمجامعه.
قامت زوجة أميركية بمراسلتي لأنها أرادت هداية زوجها حسان (من تركيا) إلى الإيمان بخلاص المسيح. في أول زيارة لم أتعرض لعقائد حسان المسلم ولا هذه العقائد تهمني أو تشغل بالي بل هي مصدر ملل وقرف في كثير من الأحيان. هل أنا بحاجة للتذكير بمسائل رضاع الكبير وضرب الزوجات على الطريقة الشرعية والقائمة التي تطول ولا تقف عند حد؟ ذات مرة سألني حسان عن كتابي المقدس كمسيحي وكيف تم تدوينه وكيف جاء إلينا كمسيحيين. تطوعت زوجته وقتئذ للرد وتعالت الأصوات حيث أراد كل واحد أن يبين له فساد الديانة الإسلامية. بحزمٍ أوقفتهم وقلت: "لنقف هنا. سامحنا يا أخ حسان على أي كلام قد صدر منا بحق نبيك. لست خبيرًا في دينك ولكني أقدر أن أحدثك عن ديني أنا إذ ما يخصني أقدر أن أتحدث فيه، وهو كل ما يشغلني". ثم شرعت أحدثه عن الإنجيل وكيفية تدوينه ومعنى الوحي في الإنجيل وكل هذه المسائل. نعم، لم أشأ التعرض لدينه الإسلامي وأنا في أميركا وفي بلاد الحرية وعندي الحرية الكاملة لأقول كل ما أريد وإنما هو الترفُع أمام "الإنسان" الذي يتحدث إلينا. يمكن أن تصبح إنسانًا ذا نفسٍ كبيرةٍ ولا يصح إذ ذاك أن يُقال عنك جبانًا بل هي "حكمة الحيات" في نفسٍ كبيرةٍ.
الجبان هو من يطلق الكلام على عواهنه ويسب أخاه الإنسان بالجبن في حين أن الجبان ليس أحد سواه هو، وفاته أنه هناك شجاعة الحملان، تسير في درب الحمل، حمل الله الحامل خطايا العالم. إنه اقتدار الصليب الذي ينشده كثير من الأقباط في القدّاس مصلين: اظهر لنا بالضعف ما هو أعظم من القوة. لأول وهلة بدا الصليب وكأنه تخاذل وضعف ولكن بدون الصليب لا مجد؛ ومجد المسيحية ينطلق من صليبها.
تسرني مراسلتكم على بريدي الآتي:
timothyinchrist@gmail.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط